سورة الأنفال - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{لِيُحِقَّ الْحَقَّ} ليثبت الإسلام، {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي: يفني الكفر {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} المشركون. وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان.
قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر. روي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، واستقبل القبلة ومد يده فجعل يهتف بربه عز وجل: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه عز وجل مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم}، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} مرسل إليكم مددا وردءا لكم، {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} قرأ أهل المدينة ويعقوب {مردفين} بفتح الدال، أي: أردف الله المسلمين وجاء بهم مددا. وقرأ الآخرون بكسر الدال، أي: متتابعين بعضهم في إثر بعض، يقال: أردفته وردفته بمعنى تبعته.
يُروى أنه نزل جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رءوسهم عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ناشد ربه عز وجل وقال أبو بكر: إن الله منجز لك ما وعدك فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم انتبه، فقال: «يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا عبد الوهاب، ثنا خالد، عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ويوم حنين عمائم خضر، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا.
وروي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قد شهد بدرا أنه قال بعدما ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة.


قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} يعني: الإمداد بالملائكة، {إِلا بُشْرَى} أي: بشارة {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {يغشاكم} بفتح الياء، {النعاس} رفع على أن الفعل له، كقوله تعالى في سورة آل عمران {أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} [آل عمران- 154] وقرأ أهل المدينة: {يغشيكم} بضم الياء وكسر الشين مخففا، {النعاس} نصب، كقوله تعالى: {كأنما أغشيت وجوههم}، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الشين مشددا، {النعاس} نصب، على أن الفعل لله عز وجل، كقوله تعالى: {فغشاها ما غشى} [النجم- 54]، والنعاس: النوم الخفيف. {أَمَنَةً} أمنا {مِنْهُ} مصدر أمنت أمنا وأمنة وأمانا. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان، وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم؟ فأرسل الله عز وجل عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا، وتوضأوا وسقوا الركاب، وملأوا الأسقية، وأطفأ الغبار، ولبَّد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام، وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} من الأحداث والجنابة.
{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} وسوسته، {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} باليقين والصبر {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ} حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض. وقيل: يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب.
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ} الذين أمد بهم المؤمنين، {أَنِّي مَعَكُمْ} بالعون والنصر، {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: قووا قلوبهم. قيل: ذلك التثبيت حضورهم معهم القتال ومعونتهم، أي: ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين.
وقال مقاتل: أي: بشروهم بالنصر، وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم. {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} قال عطاء: يريد الخوف من أوليائي، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ} قيل: هذا خطاب مع المؤمنين. وقيل: هذا خطاب مع الملائكة، وهو متصل بقوله: {فثبتوا الذين آمنوا}، وقوله: {فوق الأعناق} قال عكرمة: يعني الرءوس لأنها فوق الأعناق. وقال الضحاك: معناه فاضربوا الأعناق، وفوق صلة كما قال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} [محمد- 4]، وقيل: معناه فاضربوا على الأعناق. فوق بمعنى: على.
{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال عطية: يعني كل مفصل. وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك: يعني الأطراف. والبنان جمع بنانة، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين. قال ابن الأنباري: ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون، فعلّمهم الله عز وجل.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القادر الجرجاني، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا زهير بن حرب، ثنا عمرو بن يونس الحنفي، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا أبو زميل هو سماك الحنفي ثنا عبد الله بن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذا سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة». فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
وروي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: والله، لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال عكرمة، قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: إلي يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، قال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده؟ فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته».
وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر، كعب بن عمرو أخو بني سلمة، وكان أبو اليسر رجلا مجموعا، وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر، كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أعانك عليه ملك كريم».


{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} خالفوا الله، {وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{ذَلِكُمْ} أي: هذا العذاب والضرب الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر، {فَذُوقُوهُ} عاجلا {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} أي: واعلموا وأيقنوا أن للكافرين أجلا في المعاد، {عَذَابِ النَّارِ} روى عكرمة عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو أسير في وثاقه: لا يصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمه؟ قال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي مجتمعين متزاحمين بعضكم إلى بعض، والتزاحف: التداني في القتال: والزحف مصدر؛ لذلك لم يجمع، كقولهم: قوم عدل ورضا. قال: الليث: الزحف جماعة يزحفون إلى عدولهم بمرة، فهم الزحف والجمع: الزحوف. {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ} يقول: فلا تولوهم ظهوركم، أي تنهزموا فإن المنهزم يولى دبره.
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظهره، {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي منعطفا يرى من نفسه الانهزام، وقصده طلب الغرة وهو يريد الكرة، {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: منضما صائرا إلى جماعة من المؤمنين يريد العود إلى القتال. ومعنى الآية النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم، إلا على نية التحرف للقتال والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد، كما قال تعالى: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} اختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري: هذا في أهل بدر خاصة، ما كان يجوز لهم الانهزام لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك.
قال يزيد بن أبي حبيب أوجب الله النار لمن فر يوم بدر، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} [آل عمران- 155]، ثم كان يوم حنين بعده فقال: {ثم وليتم مدبرين} [التوبة 0 25] {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} [التوبة- 27].
وقال عبد الله بن عمر: كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا، فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون قال: «بل أنتم الكرارون، أنا فئة المسلمين».
وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إلي كنت له فئة فأنا فئة كل مسلم.
وقال بعضهم: حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزما. جاء في الحديث: «من الكبائر الفرار من الزحف».
وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: {الآن خفف الله عنكم} [الأنفال- 66] فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت تلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا أو يولوا ظهورهم إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، وإن كانوا أقل من ذلك جاز لهم أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم قال ابن عباس: «من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن اثنين فقد فر».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8